ماذا بعد الانضمام إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية؟

مسعود أحمد بيت سعيد

masoudahmed58@gmail.com

 

يُعد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1966 ودخل حيز التنفيذ عام 1976، إحدى الوثائق الأساسية في منظومة حقوق الإنسان العالمية، فلا يمكن لأي نظام سياسي أن يزعم احترامه لحقوق الإنسان من دون التزام صريح بما ورد في هذا العهد، وفي مقدمته، حرية الرأي والتعبير، وحرية تكوين الجمعيات.

من هذا المنطلق، فإن صدور المرسوم السلطاني رقم 89/ 2025، بالموافقة على انضمام سلطنة عُمان إلى هذا العهد، يمثل تحولًا تاريخيًا يُدشِّن عهدًا وفجرًا جديدين في المسيرة الوطنية العُمانية، ويؤكد وجود إرادة سياسية، تستجيب لتطلعات المجتمع نحو إصلاح شامل: سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا؛ بما يتواكب مع روح العصر ومتغيراته، وما يشهده العالم من تحولات عميقة في مفاهيم السيادة والديمقراطية. وفي هذا السياق، تُعد الحقوق السياسية معيارًا جوهريًا لمدى التزام الدول بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان. ورغم انضمام عدد كبير من الدول إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إلّا أن الواقع العملي يكشف عن فجوة واسعة بين الالتزام الشكلي والتطبيق الفعلي. ومن هذا المنظور، لا تزال دول الخليج- وإن بدرجات متفاوتة- تفرض قيودًا أمنية وتشريعية صارمة على أي نشاط سياسي، مُتذرِّعة بالحفاظ على الهوية الوطنية والاستقرار الاجتماعي، وكأنَّ هذين الهدفين لا يتحققان إلّا بخنق الحريات، وتكريس الاستبداد السياسي، وتعميق الفوارق الاقتصادية. وفي هذا الإطار، يُعد توقيع سلطنة عُمان على العهد، خطوة إيجابية جديرة بالإشادة، لما تحمله من دلالات سياسية، تدفع باتجاه توسيع دائرة الحريات، وتعزيز المشاركة الشعبية في صنع القرار والرقابة المجتمعية. غير أن هذه الخطوة، رغم رمزيتها، لا تكفي وحدها؛ بل تتطلب تحولًا حقيقيًا في السياسات، من خلال إصلاحات قانونية واضحة تترجم الالتزامات الدولية إلى واقع ملموس. ويرى البعض أن الأنظمة السياسية غالبًا ما تحاول، بهذا الالتزام، إظهار حُسن النية أمام المجتمع الدولي من جهة، مع الإبقاء على إمكانية تفريغ التزاماتها من مضمونها الحقيقي من جهة أخرى، من خلال التحفظات، والتأويلات، والتفسيرات المتعددة؛ مما يُبقي واقعها السياسي القائم دون تغيير.

وفي هذه المرحلة؛ حيث تسعى معظم الأنظمة إلى إعادة إنتاج ذاتها، وترسيخ خياراتها الفئوية الضيقة تحت شعارات الأمن والاستقرار، تكتسب المعركة من أجل الحقوق السياسية أهمية لا تقل عن النضال من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية. غير أنه، في ظل ازدواجية المعايير الدولية، والخشية المشروعة من توظيف المطالب الحقوقية كأداة للهيمنة السياسية، تتخذ التحديات الناتجة عن هذه الظاهرة طابعًا مُعقَّدًا ومُركَّبًا، يجعل التعامل معها أكثر صعوبة. ورغم هذه التعقيدات والمحاذير، يظل العهد الدولي لحقوق الإنسان أداة قانونية وأخلاقية، تمنح الشعوب والطبقات المضطهدة وسائل فعالة تمكنها من مواصلة نضالها في سبيل تحقيق الحد الأدنى من حقوقها؛ سواءً السياسية أو الاقتصادية، وتكسب هذه النضالات زخمًا واقعيًا يعزز من حضورها وفعاليتها.

والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدى تدرك الجماهير أهمية هذه الالتزامات؟ وإلى أي حد تمتلك القدرة على الاستفادة منها؟

إنَّ الإجابة عن هذين التساؤلين ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمستوى الوعي الاجتماعي السائد، والذي لا يزال- في كثير من الأحيان- يُقلل من شأن الحقوق السياسية، ويضعها في مرتبة ثانوية. ويُعزى هذا التقليل إلى عاملين رئيسيين؛ العامل الأول: التجارب السلبية التي قدمتها بعض النماذج؛ حيث دفعتها مطامحها السياسية إلى استقدام القوى الاستعمارية وتدمير أوطانها، عززت حالة انعدام الثقة في جدوى النشاط السياسي الشعبي، ورسخت نظرة سلبية تجاه العمل السياسي لدى قطاعات اجتماعية واسعة. أما العامل الثاني: فهو ما يتعرض له أصحاب هذه الرؤى من تضييق، بحيث يعطي صورة ملموسة بأن مجرد إثارة هذه المطالب يُعرِّض أصحابها للحرمان من أبسط الحقوق.

لكن الواقع يؤكد حقيقة لا تقبل الجدل؛ وهي أن استثمار الطاقات الوطنية، المادية والمعنوية، والتصدي للنزعات المذهبية والمناطقية والقبلية، وتعزيز ثقافة وطنية جامعة، لا يمكن أن يتم إلّا من خلال منظومة متكاملة من الإجراءات غير القابلة للتجزئة. وتتمثل هذه المنظومة في دساتير عصرية، وحريات ديمقراطية، وقوى سياسية؛ سواءً أُطلق عليها مسمى أحزاب أو جمعيات سياسية، تعمل على ترسيخ مفاهيم السلم الاجتماعي الحقيقي، بما يُفضي إلى تحقيق الأهداف الوطنية العُليا، وفي مقدمتها تحرير القرارات الوطنية من كافة أشكال التبعية والتأثيرات الخارجية، وتثبيت السيادة الوطنية المستقلة، وتحقيق المشاركة السياسية، وإرساء العدالة؛ بوصفها ركيزة الاستقرار الاجتماعي.

الأكثر قراءة